ن ما آل إليه مجتمعنا الإسلامي الذي قطع أشواطاً بعيدة كل البعد عن الهدي المحمدي جعله يتصف بطبائع جاهلية شتى. ومن صور جاهلية هذا العصر التي تبنتها واحتضنتها أمة الإسلام ضيق الصدر وقلة العفو وعدم الصبر على أذى الناس، ولعلها هي أسباب تخلفنا حتى صرنا في آخر القافلة نخطوا الخطى الضعاف نحو المجد والعُلا، مخالفين بذلك وصايا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم فإنه يقول : " ألا أنبئكم بما يشرف الله به البنيان ، ويرفع الدرجات ، قالوا بلى يا رسول الله، قال : تحلم على من جهل عليك وتعفو عمن ظلمك ، وتعطي من حرمك وتصل من قطعك "، رواه أبو هريرة .
هذه صفات تشرف بنيان من اتصف بها ولعله بنيان العز والمجد في الدنيا ، وبنيان الكرامة في الآخرة . وهي صفات ترفع الدرجات في أهل الأرض وعند أهل السماء ، أهل هذه الصفات هم أهل الفضل كما سماهم المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال : " إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة نادى منادٍٍ : أين أهل الفضل فيقوم أناس وهم يسير فينطلقون سراعاً الى الجنة فتتلقاهم الملائكة فيقولون نعم إنا نراكم سراعاً الى الجنة فيقولون نحن أهل الفضل فيقولون لهم وما كان فضلكم ؟ فيقولون كنا إذا ظلمنا صبرنا وإذا أُسيء إلينا غفرنا وإذا جُهل علينا حلمنا فيقال لهم ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين "، رواه الأصفهاني .
وهنا نضع ستين خطاً تحت كلمة " وهم يسير" حقاً إنهم أهل الفضل فالقليل من يقهر الأنانية في نفسه وحب الانتقام وإرضاء ذاته بإفشاء الغليل من غريمه أو من يخاصمه ليعلو في درجات الفضيلة فغالبيتنا - إلا من رحم ربي - نبني علاقاتنا وصلاتنا مع الآخرين على مبدأ المصلحة المقابلة أو المجاملة الاجتماعية ، نحسن مقابل الإحسان إلينا ونصل من وصلنا ونعطي من أعطانا ولا نتعدى ذلك قيد أُنمله بل نقف بالمرصاد لمن أساء إلينا ، الابن يقف لوالديه بالمرصاد والأخ مقابل أخيه والجار مقابل جاره ، ضاقت الصدور حتى اختلجت الأضلاع بعضها ببعض كالذي يصَّعد في السماء، حتى أطبقت على القلوب فعصرت تلك القلوب من كل معاني التراحم والصفح والعفو فأصبحت كالحجارة بل أشد قسوة ، فنجدنا والحال يبكى نقف في دور القضاء لنتحاكم في مشاكل اجتماعية تكدست فيها الملفات بين أعز الناس قربى ورحما ، بين أم وابنها وأخ وأخته والزوجة وزوجها .
لماذا كل هذا العناء والشقاء؟ والجواب إننا لم نقتدِ بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم والذي وصفته أقرب الناس إليه زوجته عائشة رضي الله عنها فقالت: " ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصراً من مظلمة ظُلمها قطُّ ما لم تُنتهك من محارم الله شيء كان أشدهم في ذلك غضباً وما خُير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً "
خذ العفو عن جاهل قد بـغى : عليــك تفـز بالمقــام الأمـين وبالعرف فأمر وكن محسنا : وواصل وأعرض عن الجاهلين
ألا تحب أن يكون لك أجر على الله ؟
"إذا جثت الأمم بين يدي الله عز وجل يوم القيامة نودوا : ليقم من كان له أجر على الله فلا يقوم إلا العافون من الناس في الدنيا "، والى ذلك الإشارة بقوله تعالى : " فمن عفا وأصلح فأجره على الله "- "الشورى:40" .
وحسبنا أن نتذكر موقف الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الفتح الأكبر وهذا أعظم مثل في العفو، عندما دخل مكة في عشرة آلاف من جند الله وبعد أن حطم الأصنام وأذن بلال وقف أمام الكعبة فرأى أهل مكة الذين طردوه وأخرجوه من بلده، ومن عشيرته وأهله ، يرتعدون أمامه، لأنهم ظنوا أن محمداً سيفتك بهم في هذا اليوم ، ولكنه صلى الله عليه وسلم كان كما وصفه الله تعالى : " رحمة للعالمين " ، فقد نظر إليهم ثم قال لهم : وما تظنون أني فاعل بكم " قالوا خيراً أخ ٌ كريم ، وابن أخ كريم ، فقال اذهبوا فأنتم الطلقاء لا تثريب عليكم اليوم .. يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ".
وللصحابة والسلف الصالحين مواقف شتى من العفو ، وذلك لأنهم أقرب الناس الى النبي صلى الله عليه وسلم وأكثرهم اقتداءً به قال الإمام علي رضي الله عنه : " إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه "« وعنه أيضاً » " أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة " . وممن اشتهر بالحلم والعفو الأحنف رحمه الله وكان يقول : ما آذاني أحدٌ إلا أخذت في أمره إحدى ثلاث إن كان فوقي " أعظم مني " عرفت له فضله فلم أُقابل إساءته ، وإن كان مثلي " بمنزلتي " تفضلت عليه ، وإن كان دوني " أقل مني وأضعف " أكرمت نفسي عنه بعدم الانتقام منه أو التعرض له .
وينبغي للمسلم أن يكون معظماً لآيات الله فالسلف الصالح اتصفوا بأنهم كانوا وقافين عند حدود الله ، فقد حكي عن جعفر الصادق رضي الله عنه أن غلاماً له وقف يصب الماء على يديه وبينما هو يغسل يديه وقع الإبريق من يد الغلام وتطاير رشاش الماء الوسخ على وجه جعفر الصادق فغضب فقال الغلام مذكراً سيده جعفر: يا مولاي والكاظمين الغيظ، قال جعفر : كظمت غيظي ، قال الغلام : والعافين عن الناس ، قال جعفر: عفوت عنك ، قال الغلام : والله يُحب المحسنين ، قال جعفر : أنت حر لوجه الله تعالى .
وهؤلاء الصالحون فهموا وأدركوا الأجر العظيم الحاصل من كظم الغيظ والعفو فتاقت أنفسهم للدرجات العلى في الجنة، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا فقال : " رأيت قصورا في الجنة أثناء رحلة الإسراء والمعراج فقلت : يا جبريل لمن هذه القصور قال جبريل هي للكاظمين الغيظ والعافين عن الناس " .
هذا الأجر في الآخرة، وهنالك فضائل تجنى وخيرٌ حاصل أيضاً في الدنيا باتباعنا هدي النبي محمد صلى الله عليه وسلم بكظم الغيظ والعفو والعطاء العام للمحسن وللمسيء إلينا، وأول هذه الثمار أننا نحيا بأمان وسلام والذي ذكره رب العزة فقال : " يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوٌ مبين ".
وعندها ننجوا من المعيشة الضنك التي يحياها أي مجتمع جاهلي، هذا على المدى البعيد، ثم إن هنالك ثماراً فورية وآنية نحصل عليها وبينها القرآن الكريم : " ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه وليٌ حميم " [فصلت :34] . ومثال لذلك ما يُروى عن أبي حنيفة النعمان سيد فقهاء عصره أنه كان له جار سكير يسهر الى مقتبل النهار يشرب الخمر ويغني فيقول :
أضاعوني وأي فتى أضاعوا : ليوم كريهة وطعان سهم
فيُعكرُ على أبي حنيفة مطالعته وصلاته بالليل وأبو حنيفة يصبر عليه لأنه جاره، والظاهر أن أحد أصحاب أبي حنيفة أخبر الشرطة عنه دون علم أبي حنيفة فقبضوا عليه وأودعوه السجن فلم يسمع أبو حنيفة صوته تلك الليلة فسأل عنه فقيل له إنه في السجن فذهب أبو حنيفة للشرطة وطلب العفو عنه وأخذه بيده وذهب به إلى البيت وقال له في الطريق هل أضعناك يا فتى قال : لا : جزاك الله خيراً . ثم أعلن إسلامه لما شاهد من حسن أخلاق أبى حنيفة وعفوه عليه وتاب عن شرب الخمر وهكذا فإن أبو حنيفة يؤجر بإسلام هذا الفتى على يده في الآخرة وكُفي أمر إزعاجه له بسكره في الدنيا .وإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون والحمد الله رب العالمين.